الامام محمد بن علی الباقر (ع)

وصاياه القيمة

وأثرت عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) وصايا كثيرة، وجه بعضها لأبنائه، وبعضها لأصحابه وهي حافلة بالقيم الكريمة، والمثل العليا، وزاخرة بآداب السلوك، والتوجيه الصالح الذي يصون الإنسان من الانحراف والسلوك في المنعطفات، وفيما يلي ذلك:

وصاياه لولده الصادق:
وزود الإمام أبو جعفر (عليه السلام) ولده الصادق بجمهرة من الوصايا القيمة، ومن بينها:
1- قال (عليه السلام): (يا بني إن الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعة شيئاً فلعل رضاءه فيه، وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئاً فلعل سخطه فيه، وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرن أحداً فلعله ذلك الولي..)(1).
وحفلت هذه الوصية بمعالي الأخلاق، ففيها الترغيب في طاعة الله والحث عليها، وفيها التحذير من المعصية، والتشديد في أمرها، وفيها الحث على تكريم الناس وعدم الاستهانة بأي أحد منهم.
2- حكى الإمام الصادق (عليه السلام) إحدى وصايا أبيه إلى سفيان الثوري فقد قال له: (يا سفيان أمرني أبي بثلاث، ونهاني عن ثلاث، فكان فيما قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم، ثم أنشدني:
عود لسانك قول الخير تحظ به***إن اللسان لما عودت يعتاد
موكل بتقاضي ما سننت له***في الخير والشر فانظر كيف تعتاد(2)
وهذه الوصايا من روائع الحكم، ومن خيرة وصايا المصلحين لبنائهم فقد حفلت بجميع مقومات الآداب والفضائل.

وصيته لبعض أبنائه:
واوصى بعض أبنائه بهذه الوصية فقال له: (يا بني إذا أنعم الله عليك نعمة فقل: الحمد لله، وإذا أحزنك(3) أمر فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا أبطأ عنك رزقك فقل: استغفر الله..)(4).

وصيته لعمرو بن عبد العزيز:
وحينما ولي الخلافة عمرو بن عبد العزيز طلب من الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أن يزوده بوصية ينتفع بها، ويسوس بها دولته، فقال (عليه السلام) له:
(أوصيك بتقوى الله، وأن تتخذ صغير المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً، وكبيرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبر أباك، وإذا صنعت معروفاً فربه(5))(6).
وبهر عمر بهذه الحكمة الجامعة وراح يبدي إعجابه قائلاً:
(جمعت والله ما إن أخذنا به، وأعاننا الله عليه استقام لنا الخير إن شاء الله)(7).
وأروع كلمة جامعة لشؤون السياسة العادلة هذه الكلمة القيمة، فإن رئيس الدولة إذا ساس رعيته بسياسة العدل والإنصاف، واعتبر أبناء الأمة من أفراد أسرته، وعاملهم كما يعامل الرجل أهله فسيشيع فيهم الخير، ويبسط فيهم العدل فإن الحكومة والشعب يسعدان، ويستقيم لهما الخير.

وصيته لجابر الجعفي:
وزود الإمام أبو جعفر (عليه السلام) تلميذه العالم جابر بن يزيد الجعفي بهذه الوصية الخالدة الحافلة بجميع القيم الكريمة والمثل العليا التي يسمو بها الإنسان فيما لو طبقها على واقع حياته، وهذا بعض ما جاء فيها:
(أوصيك بخمس: إن ظُلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كُذبت فلا تغضب، وإن مدحت فلا تفرح، وإن ذُممت فلا تجزع، وفكر فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله عز وجل عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك: فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.
واعلم بأنك لن تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن أعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه فأثبت وابشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك، وإن كنت مبائناً للقرآن، فماذا الذي يغرك من نفسك، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة الله ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله، فينتعش، ويقيل الله عثرته فيتذكر، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف وذلك بأن الله يقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)(8) .
يا جابر استكثر نفسك من الله قليل الرزق تخلصًٍ إلى الشكر، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله ازراءاً على النفس(9) وتعرضاً للعفو، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة، وتوق مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء، وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع سباب الطمع ببرد اليأس، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض، واطلب راحة البدن باجمام(10) القلب، وتخلص إلى اجمام القلب بقلة الخطأ، وتعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن. وتحرز من إبليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق، وتزين لله عز وجل بالصدق في الأعمال، وتحبب إليه بتعجيل الانتقال وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى، وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم، وكثرة الاستغفار، وتعرض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء، والمناجاة في الظلم، وتخلص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق، واستقلال كثير الطاعة، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، والتوسل إلى عظيم الشكر بخوف زوال النعم، واطلب بقاء العز بإماتة الطمع، وادفع ذل الطمع بعز اليأس، واستجلب عز اليأس ببعض الهمة، وتزود من الدنيا بقصر الأمل، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، ولا إمكان كالأيام الخالية مع صحة الأبدان، وإياك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء.
واعلم أنه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك للدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا عدل كالإنصاف، ولا تعدي كالجور، ولا جور كموافقة الهوى، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا خوف كالحزن، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا عدم عقل كقلة اليقين، ولا قلة يقين كفقد الخوف، ولا فقد خوف كقلة الحزن على فقد الخوف، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة التي أنت عليها، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوى، ولا قوة كرد الغضب، ولا معصية كحب البقاء، ولا ذل كذل الطمع، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنه ميدان يجر لأهله بالخسران..)(11).
ودللت هذه الوصية الرائعة الحافلة بجواهر الحكم على إمامة الإمام أبي جعفر (عليه السلام) وأضاءت جانباً كبيراً من مواهبه وعبقريا ته، ولو لم تكن له إلا هذه الوصية لكفت في الاستدلال على عظمته وما يملكه من طاقات علمية لا تحد، لقد نظر الإمام العظيم إلى أعماق النفوس، وسبر أغوارها وحلل أبعادها، وعرف ما ابتلي به الإنسان من الأمراض والآفات لقد ابتلي الإنسان بالجهل والغرور والكبرياء والجشع والطمع، وطول الأمل وغير ذلك مما يدفعه إلى الإغراق في المعاصي واقتراب الآثام والانحراف عن طريق الحق، وعدم الاستقامة في سلوكه، درس الإمام (عليه السلام) هذه الأمراض فوضع لها العلاج الحاسم، ووصف لها الدواء السليم الذي يقضي على جراثيمها، وإذا أخذ الإنسان بهذه الوصفة فإنه يعود إنساناً مثالياً مهذباً، قد صان نفسه، واتصل بخالقه الذي إليه مرجعه ومآله، ولولا خوف الإطالة لشرحنا بنودها شرحاً مفصلاً، ودللنا على ما فيها من الحكم والأسرار.

وصيته لرجل:
وفد عليه رجل من المسلمين وطلب منه أن يمنحه بوصية يسير على ضوئها فقال (عليه السلام) له:
(هيئ جهازك، وقدم زادك، وكن وصي نفسك)(12).
لقد دله على ما يقربه إلى الله زلفى، وما يضمن له السلامة في دار البقاء والخلود، إن الإنسان إذا هيئ جهازه وقدم زاده كان على سلامة من دينه، وضمان آخرته.

وصيته لبعض أصحابه:
وأراد بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) السفر فزوده (عليه السلام) بهذه الوصية القيمة، قال له:
(لا تسيرن سيراً وأنت حافي، ولا تنزلن عن دابتك ليلاً لقضاء حاجة إلا ورجلك في خف، ولا تبولن في نفق، ولا تذوقن بقلة ولا تشمها حتى تعلم ما هي، ولا تشرب من سقاء حتى تعرف ما فيه، واحذر من تعرف ولا تصحب من لا تعرف..)(13).
لقد أوصاه الإمام (عليه السلام) بالمناهج الصحية والدروس الأخلاقية التي تضمن له الصحة والسلامة..

أما ما يتعلق بالصحة والوقاية من الأمراض فهي:
أ) أمره أن لا يسير حافياً، فإن المشي حافياً كثيراً ما يجلب للإنسان بعض الأمراض التي انتشرت جراثيمها في الأرض، وهي مما تنفذ بسرعة إلى مسام القدمين مثل البلهارسيا.
ب) أوصاه أن لا ينزل من دابته في الليل حافياً لقضاء حاجته لأنه لا يؤمن أن تلدغه بعض هوام الأرض الكامنة في التراب، وهو لا يدري.
ج) حذره من أن يبول في النفق لأنه غالباً ما تكمن فيه بعض الحيوانات القاتلة فتنساب إليه، وتسبب هلاكه.
د) نهاه من تناول أحد البقول المنتشرة في الصحراء، ما لم يعرفها فإنها قد تكون سامة وهو لا يعلم فتسبب تسممه وتؤدي بحياته أو مرضه.
هـ) نهاه عن الشرب من السقاء حتى يعلم ما فيه لأنه قد يكون شراباً فاسداً ومضراً بصحته فيسبب هلاكه أو سقمه، هذه بعض المناهج الصحية التي أمره بها وأما الدروس الأخلاقية فقد أوصاه بأمرين:
1- أن يحذر من يعرف، فلا يبيح له بأسراره، كما أن عليه أن يحسن صحبته خوفاً منه، فإن السفر يكشف عن حقيقة الشخص، ويظهر كوامن سره، وكم سافر جماعة كانت بينهم أعمق المودة فعادوا وهم أعداء يلعن بعضهم بعضاً، فعلى الإنسان المستقيم أن يكون في سفره على حذر ممن يعرفه، وممن لا يعرفه.
2- نهاه عن السفر مع من لا يعرف، فإنه قد يسبب له كثيراً من المشاكل التي قد تؤدي إلى هلاكه، وقد وقع ذلك بكثرة للمسافرين مع من لا يعرفونهم.. هذه بعض وصاياه القيمة.

الهوامش:
(1) الفصول المهمة ص29 وسيلة المآل في عد مناقب الآل ص208.
(2) الخصال ص157
(3) حزبه الأمر: نابه واشتد عليه.
(4) البيان والتبيين:ج 3ص280، الموفقيات ص399.
(5) ربه: أي أدمة، يقال: ربّ بالمكان أي أقام به.
(6) الأمالي لابن علي القالي:ج 2ص308، جمهرة خطب العرب ج2ص147.
(7) تاريخ دمشق ج51 ص38.
(8) سورة الأعراف: آية 200.
(9) ازراءاً على النفس: أي احتقاراً واستخفافاً بها.
(10) الجمام: (بالفتح) الراحة.
(11) تحف العقول ص284- ص286.
(12) تاريخ دمشق ج 51 ص38.
(13) تذكرة ابن حمدون ص27.